فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} فيه أربعة أقاويل:
أحدها: لا تفسدوها بالكفر بعد إصلاحها بالإيمان.
والثاني: لا تفسدوها بالظلم بعد إصلاحها بالعدل.
والثالث: لا تفسدوها بالمعصية بعد إصلاحها بالطاعة، قاله الكلبي.
والرابع: لا تفسدوها بقتل المؤمن بعد إصلاحها ببقائه، قاله الحسن.
{وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا} يحتمل وجهين:
أحدهما: خوفًا من عقابه وطمعًا في ثوابه.
والثاني: خوفًا من الرد وطمعًا في الإجابة.
{إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ} فإن قيل: فلم أسقط الهاء من قريب والرحمة مؤنثة؟
فعن ذلك جوابان:
أحدهما: أن الرحمة من الله إنعام منه فَذُكِّرَ على المعنى، وهو أن إنعام الله قريب من المحسنين، قاله الأخفش.
والثاني: أن المراد به مكان الرحمة، قاله الفراء، كما قال عروة بن حزام:
عَشِيَّة لاَ عَفْرَاءَ مِنكِ قَرِيبَةٌ ** فَتَدْنُو ولا عَفْرَاءُ مِنْكِ بَعِيدُ

فأراد بالبعد مكانها فأسقط الهاء، وأرادها هي بالقريبة فأثبت الهاء. اهـ.

.قال ابن عطية:

قوله تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض} الآية، ألفاظ عامة تتضمن كل إفساد قلَّ أو كثر بعد إصلاح، قل أو كثر، والقصد بالنهي هو على العموم وتخصيص شيء دون شيء في هذا تحكم إلا أن يقال على وجهة المثال، قال الضحاك: معناه لا تغوروا الماء المعين ولا تقطعوا الشجر المثمر ضرارًا، وقد ورد قطع الدينار والدرهم من الفساد في الأرض، وقد قيل تجارة الحكام من الفساد في الأرض، وقال بعض الناس: المراد ولا تشركوا في الأرض بعد أن أصلحها الله ببعثة الرسل وتقرير الشرائع ووضوح ملة محمد صلى الله عليه وسلم، وقائل هذه المقالة قصد إلى أكبر فساد بعد أعظم صلاح فخصه بالذكر.
وقوله تعالى: {وادعوه خوفًا وطمعًا} أمر بأن يكون الإنسان في حالة ترقب وتحزن وتأميل الله عز وجل حتى يكون الرجاء والخوف كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامة وإن انفرد أحدهما هلك الإنسان، وقد قال كثير من العلماء ينبغي أن يغلب الخوف الرجاء طول الحياة، فإذا جاء الموت غلب الرجاء، وقد رأى كثير من العلماء أن يكون الخوف أغلب على المرء بكثير، وهذا كله احتياط ومنه تمني الحسن البصري أن يكون الرجل الذي هو آخر من يدخل الجنة، وتمنى سالم مولى أبي حذيفة أن يكون من أصحاب الأعراف لأن مذهبه أنهم مذنبون، ثم أنس قوله تعالى: {إن رحمت الله قريب من المحسنين} فإنها آية وعد فيها تقييد بقوله: {من المحسنين}.
واختلف الناس في وجه حذف التاء من {قريب} في صفة الرحمة على أقوال، منها أنه على جهة النسب أي ذات قرب، ومنها أنه لما كان تأنيثها غير حقيقي جرت مجرى كف خضيب ولحية دهين، ومنها أنها بمعنى مذكر فذكر الوصف لذلك.
واختلف أهل هذا القول في تقدير المذكر الذي هي بدل منه فقالت فرقة الغفران والعفو، وقالت فرقة المطر، وقيل غير ذلك، وقال الفراء: لفظة القرب إذا استعملت في النسب والقرابة فهي مع المؤنث بتاء ولابد، وإذا استعملت في قرب المسافة.
قال القاضي أبو محمد: أو الزمن- فقد تجيء مع المؤنث بتاء وقد تجيء بغير تاء، وهذا منه، ومن هذا قول الشاعر: [الطويل]
عشية لا عفراء منك قريبة ** فتدنو ولا عفراء منك بعيد

فجمع في هذا البيت بين الوجهين.
قال القاضي أبو محمد: هذا قول الفراء في كتابه، وقد مر في بعض كتب المفسرين مقيدًا ورد الزجّاج على هذا القول، وقال أبو عبيدة {قريب} في الآية ليس بصفة للرحمة وإنما هو ظرف لها وموضع، فيجيء، هكذا في المؤنث والاثنين والجميع وكذلك بعيد، فإذا جعلوها صفة بمعنى مقربة قالوا قريبة وقريبتان وقريبات.
وذكر الطبري أن قوله: {قريب} إنما يراد به مقاربة الأرواح للأجساد أي عند ذلك تنالهم الرحمة. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} فيه ستة أقوال:
أحدها: لا تفسدوها بالكفر بعد إصلاحها بالإيمان.
والثاني: لا تفسدوها بالظلم بعد إصلاحها بالعدل.
والثالث: لا تفسدوها بالمعصية بعد إصلاحها بالطاعة.
والرابع: لا تعصوا، فيمسك الله المطر، ويهلك الحرث بمعاصيكم بعد أن أصلحها بالمطر والخصب.
والخامس: لا تفسدوها بقتل المؤمن بعد إصلاحها ببقائه.
والسادس: لا تفسدوها بتكذيب الرسل بعد إصلاحها بالوحي.
وفي قوله: {وادعوه خوفًا وطمعًا} قولان:
أحدهما: خوفًا من عقابه، وطمعًا في ثوابه.
والثاني: خوفًا من الردِّ وطمعًا في الإِجابة.
قوله تعالى: {ان رحمة الله قريب من المحسنين} قال الفراء: رأيت العرب تؤنِّث القريبة في النسب، لا يختلفون في ذلك، فإذا قالوا: دارك منا قريب، أو فلانة منا قريب، من القرب والبعد، ذكّروا وأنَّثوا، وذلك أنهم جعلوا القريب خَلَفًا من المكان، كقوله: {وما هي من الظالمين ببعيد} [هود: 83] وقوله تعالى: {وما يدريك لعل الساعة تكون قريبًا} [الأحزاب: 63] ولو أُنِّث ذلك لكان صوابًا.
قال عروة:
عَشِيَّةَ لاَ عَفْرَاءُ مِنْكَ قريبةٌ ** فَتَدْنُو وَلاَ عَفْرَاءُ مِنْكَ بَعيدُ

وقال الزجاج: إنما قيل: {قريب} لأن الرحمة والغفران والعفو بمعنى واحد، وكذلك كل تأنيث ليس بحقيقي.
وقال الأخفش: جائز أن تكون الرحمة هاهنا في معنى المطر. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا} فيه مسألة واحدة وهو أنه سبحانه نهى عن كل فساد قلّ أو كثر بعد صلاحٍ قلّ أو كثر.
فهو على العموم على الصحيح من الأقوال.
وقال الضحاك: معناه لا تُعَوِّروا الماء المَعِين، ولا تقطعوا الشجر المثمِر ضِرارًا.
وقد ورد: قطع الدنانير من الفساد في الأرض.
وقد قيل: تجارة الحكام من الفساد في الأرض.
وقال القُشَيرِيّ: المراد ولا تشركوا؛ فهو نهي عن الشرك وسفك الدماء والهرْج في الأرض، وأمر بلزوم الشرائع بعد إصلاحها، بعد أن أصلحها الله ببعثه الرسلَ، وتقرير الشرائع ووضوح مِلّة محمد صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عطية: وقائل هذه المقالة قصد إلى أكبر فساد بعد أعظم صلاح فخصه بالذكر.
قلت: وأما ما ذكره الضحاك فليس على عمومه، وإنما ذلك إذا كان فيه ضرر على المؤمن، وأما ما يعود ضرره على المشركين فذلك جائز؛ فإن النبيّ صلى الله عليه وسلم قد عَوّر ماء قَلِيب بدر وقطع شجر الكافرين.
وسيأتي الكلام في قطع الدنانير في هود إن شاء الله تعالى.
{وادعوه خَوْفًا وَطَمَعًا} أمر بأن يكون الإنسان في حالة ترقب وتخوّف وتأميل لله عز وجل، حتى يكون الرجاء والخوف للإنسان كالجناحين للطائر يحملانه في طريق استقامته، وإن انفرد أحدهما هلك الإنسان، قال الله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم} [الحجر: 49 و50].
فرجّى وخوّف.
فيدعو الإنسان خوفًا من عقابه وطمعًا في ثوابه؛ قال الله تعالى: {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} [الأنبياء: 90].
وسيأتي القول فيه.
والخوف: الانزعاج لما لا يؤمن من المضار.
والطمع: توقع المحبوب؛ قاله القشيري.
وقال بعض أهل العلم: ينبغي أن يغلب الخوف الرجاء طول الحياة، فإذا جاء الموت غلب الرجاء.
قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظنّ بالله» صحيح أخرجه مسلم.
قوله تعالى: {إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين} ولم يقل قريبة.
ففيه سبعة أوجه: أوّلها أن الرَّحمة والرُّحْمُ واحد، وهي بمعنى العفو والغفران؛ قاله الزجاج واختاره النحاس.
وقال النّضْر بن شُمَيْل: الرحمة مصدر، وحقّ المصدر التذكير؛ كقوله: {فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ} [البقرة: 275].
وهذا قريب من قول الزجاج؛ لأن الموعظة بمعنى الوعظ.
وقيل: أراد بالرحمة الإحسان؛ ولأن ما لا يكون تأنيثه حقيقيًا جاز تذكيره؛ ذكره الجوهريّ.
وقيل: أراد بالرحمة هنا المطر؛ قاله الأخفش.
قال: ويجوز أن يذكّر كما يذكّر بعض المؤنث.
وأنشد:
فلا مُزْنَةٌ وَدَقَت وَدْقَها ** ولا أرضَ أبْقَلَ إبْقَالَها

وقال أبو عبيدة: ذُكّر {قَرِيبٌ} على تذكير المكان، أي مكانًا قريبًا.
قال عليّ بن سليمان: وهذا خطا، ولو كان كما قال لكان {قَرِيبٌ} منصوبًا في القرآن؛ كما تقول: إن زيدًا قريبًا منك.
وقيل: ذكّر على النسب؛ كأنه قال: إن رحمة الله ذات قُرْب؛ كما تقول: امرأة طالق وحائض.
وقال الفَرّاء: إذا كان القريب في معنى المسافة يذكّر ويؤنّث، وإن كان في معنى النَسب يؤنث بلا اختلاف بينهم.
تقول: هذه المرأة قريبتي، أي ذات قرابتي؛ ذكره الجوهريّ.
وذكر غيره عن الفرّاء: يقال في النسب قريبة فلان، وفي غير النسب يجوز التذكير والتأنيث؛ يقال: دارك مِنّا قريبٌ، وفلانة منا قريب؛ قال الله تعالى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيبًا} [الأحزاب: 63].
وقال من احتج له: كذا كلام العرب؛ كما قال امرؤ القيس:
له الوَيْلُ إن أمْسَى ولا أمَّ هاشم ** قرِيبٌ ولا البَسْبَاسَةُ ابنة يَشْكُرا

قال الزجاج: وهذا خطأ؛ لأن سبيل المذكر والمؤنث أن يجريا على أفعالهما. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها} يعني ولا تفسدوا أيها الناس في الأرض بالمعاصي والكفر والدعاء إلى غير طاعة الله بعد إصلاح الله إياها ببعثة الرسل وبيان الشرائع والدعاء إلى طاعة الله تعالى، وهذا معنى قول الحسن والسدي والضحاك والكلبي.
قال ابن عطية: لا تعصوا في الأرض فيمسك الله المطر ويهلك الحرث بسبب معاصيكم فعلى هذا يكون معنى قوله بعد إصلاحها يعني بعد إصلاح الله إياها بالمطر والخصب.
وقيل معنى الآية: ولا تفسدوا في الأرض شيئًا بعد أن أصلحه الله تعالى فيدخل فيه المنع من إتلاف النفس بالقتل أو إفسادها بقطع بعض الأعضاء وإفساد الأموال بالغصب والسرقة وأخذه من الغير بوجوه الحيل وإفساد الأديان بالكفر واعتقاد البدع والأهواء المضلة وإفساد الأنساب بالإقدام على الزنى وإفساد العقول بسبب شرب المسكر وذلك لأن المصالح المعتبرة في الدنيا هي هذه الخمسة فمنع الله من إدخال الفساد في ماهيتها.
وقوله تعالى: {وادعوه خوفًا وطمعًا} أصل الخوف انزعاج في الباطن لما لا يؤمن من المضار وقيل هو توقع مكروه يحصل فيما بعد والطمع توقع محبوب يحصل له والمعنى وادعوه خوفًا منه ومن عقابه وطمعًا فيما عنده من جزيل ثوابه.
وقال ابن جريج: العدل معناه خوف والطمع الفضل.
وقيل معناه ادعوه خوفًا من الرياء في الذكر والدعاء طمعًا في الإجابة.
فإن قلت قال في أول الآية ادعوا ربكم تضرعًا وخفية وقال هنا وادعوه وهذا هو عطف الشيء على نفسه فما فائدة ذلك؟ قلت: الفائدة فيه أن المراد بقوله تعالى: {ادعوا ربكم} أي ليكن الدعاء مقرونًا بالتضرع والإخبات وقوله وادعوه خوفًا وطمعًا أن فائدة الدعاء أحد هذين الأمرين فكانت الآية الأولى في بيان شرط صحة الدعاء والآية الثانية في بيان فائدة الدعاء وقيل معناه كونوا جامعين في أنفسكم من بين الخوف والرجاء في أعمالكم كلها ولا تطمعوا أنكم وفيتم حق الله في العبادة والدعاء وإن اجتهدتم فيهما {إن رحمت الله} أصل الرحمة رقة تقتضي الإحسان إلى المرحوم وتستعمل تارة في الرقة المجردة عن الإحسان وتارة في الإحسان المجرد عن القرة وإذا وصف بها الباري جل وعز فليس يراب بها إلا الإحسان المجرد دون الرقة فرحمة الله عز وجل عبارة عن الإفضال والأنعام على عباده وإيصال الخير إليهم.
وقيل: هي إرادة إيصال الخير والنعمة إلى عباده فعلى القول الأول تكون الرحمة من صفات الأفعال وعلى القول الثاني تكون من صفات الذات {قريب من المحسنين} قال سعيد بن جبير: الرحمة هاهنا الثواب فرجع النعت إلى المعنى دون اللفظ.
وقيل إن تأنيث الرحمة ليس بحقيقي وما كان كذلك جاز فيه التذكير والتأنيث عند أهل اللغة وكون الرحمة قريبة من المحسنين لأن الإنسان في كل ساعة من الساعات في إدبار عن الدنيا وإقبال على الآخرة وإذا كان كذلك كان الموت أقرب إليه من الحياة وليس بينه وبين رحمة الله التي هي الثواب في الآخرة إلا الموت وهو قريب من الإنسان. اهـ.